مشروع التفكير الإستراتيجيّ- مٌقدّمة
المحرر: أمل جمّال.
يَصدر هذا الكتاب في إطار مشروع التفكير الإستراتيجيّ في مركز "إعلام" بالتعاون مع مجموعة أكسفورد اللندنيّة للأبحاث ومجموعة التفكير الإستراتيجيّ من رام الله، ويشكّل استمرارًا للتقريرين الإستراتيجيّين اللذين أصدرهما مركز "إعلام"في العامَيْ 2016 وَ 2018 بغية تعميق التفكير الإستراتيجيّ حول الواقع المركّب الذي يعيشه الفلسطينيّون في إسرائيل، وحول أفضل وأجدر سبل التعامل مع التحدّيات الماثلة أمامهم.
في السنوات الثلاث الأخيرة، أخذ مركز "إعلام" على عاتقه مسؤوليّة تركيز نشاط مجموعة التفكير الإستراتيجيّ التي أصدرت التقريرين الإستراتيجيّين الأوّلين، وكذلك مسؤوليّة إصدار أوراق مواقف إستراتيجيّة يكتبها اختصاصيّون من المجتمع اليهوديّ ومن المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل، وقد جرى اختيار مواضيع أوراق المواقف من قِبل إدارة مشروع التفكير الإستراتيجيّ التي التقت في منطقة
أكسفورد في بريطانيا في صيف العام 2017 بمشاركة جميع الشركاء، ومندوب عن معهد ڤان لير في القدس من بينهم.
حتىّ في هذه المرحلة الأولّيةّ تقررّ أنّ ثمّة حاجة إلى تعميق التفكير الإستراتيجيّ حول القضايا المركزيّة التي تقع على بساط البحث في المجتمع الإسرائيليّ وفي المجتمع الفلسطينيّ، وعليه تقرّر التوجّه إلى عدد من الاختصاصيّين والاختصاصيّات كي يكتبوا/يكتبن تحليلات معمّقة حول إحدى القضايا المهمّة لمجتمعهم/لمجتمعهنّ والتي تحمل إسقاطات مهمّة على العلاقات بين المجتمع الإسرائيليّ - اليهوديّ والمجتمع الفلسطينيّ بكلّ مكوّناتهما. وفي الوقت الذي أخذت فيه مجموعة التفكير الإستراتيجيّ الفلسطينيّة على عاتقها استكتاب اختصاصيّين واختصاصيّات لكتابة اثنتي عشرة ورقة مواقف مختلفة، وقع الاختيار على مركز "إعلام" كي يركّز معالجة أوراق المواقف التي يكتبها اختصاصيّون واختصاصيّات إسرائيليّون يهود وفلسطينيّون مواطنون في دولة إسرائيل، وجرى لهذا الغرض اختيار ستّة اختصاصيّين واختصاصيّات يهود، وستّة اختصاصيّين واختصاصيّات من الفلسطينيّين مواطني إسرائيل لكتابة أوراق مواقف، كلّ في مجال تخصُّصها.
كتابة أوراق المواقف هذه تسعى إلى تعميق التفكير النقديّ والتفكُّريّ حول مسارات باطنيّة يخوض غمارَها المجتمعان اليهوديّ والفلسطينيّ في إسرائيل. وعلى الرغم من غياب التكافؤ بين هذين المجتمعين، وعلى الرغم من هيكليّة القوّة التي تتميّز بها دولة إسرائيل والتي تعمل على النهوض بالصالح العامّ الجماعيّ للمجتمع اليهوديّ، فقد وجدنا من اللائق أن نشير إلى الارتباط العميق )والاستحقاقات ذات الوزن الثقيل( بين المسارات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة التي تدور رحاها في المجتمع اليهوديّ وتلك التي تدور رحاها في المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل. توسيع الآفاق من خلال تسليط الضوء على تطوُّرات العقود الأخيرة في مجتمعَيْ أسيرَيْ
صراع متواصل بين اليهود والفلسطينيّين قد يساعد على استفاقة صُنّاع القرار، وقد يُفضي إلى تغيير )وإن كان طفيفًا( في الوعي العامّ في المجتمع الإسرائيليّ بأطيافه ومكوّناته المختلفة.
قبل أن نتّجه لاستعراض مواضيع أوراق المواقف، من المهمّ أن نلفت الانتباه للسياق الذي تدور فيه مناقشة مختلف القضايا التي طُلِب من الاختصاصيّن والاختصاصيّات تناوُلُها؛ فالمسارات التي يخضع لها المجتمع
العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل تتأثّر تأثُّرًا عميقًا بسياسات الدولة، ولا سيّما تلك المتعلّقة بالصراع الإسرائيليّ - الفلسطينيّ.
إحدى السمات البارزة لسياسة دولة إسرائيل في السنوات الأخيرة تتمثّل في السعي لتقليص مستوى الاهتمام بالصراع الإسرائيليّ - الفلسطينيّ، وبإسقاطات الاحتلال الإسرائيليّ لأراضي الضفّة الغربيّة، والحصار المتواصل لقِطاع غزّة، على الحياة اليوميّة في إسرائيل. بطبيعة الحال لا يمرّ يوم دون أن يتصدّر هذا الواقعُ العناوينَ من جديد، لكن المجتمع الإسرائيليّ بغالبيتّه ليس معنياًّ بالاستماع كثيرًا لما يجري في مناطق الضفّة الغربيةّ أو قِطاع غزّة، الأمر الذي يمنح المستوطنين في أراضي الضفّة الغربيّة قوّة كبيرة من خلال الضغوط التي يمارسونها في أروقة الحكم وعلى الجيش الإسرائيليّ وقادته الميدانيّين.
إخفاء الصراع من الأَجِنْدة وعن الوعي العامّ لا يغيّر من تعقيد ومأساويّة هذا الواقع، وحتّى لو لم يشعر غالبيّة المواطنين في إسرائيل بأنّ الصراع يطول روتينَ حياتهم، فهو يؤثّر على مَناحٍ كثيرة من حياتهم، ولا سيّما على المستويات الاقتصاديّة والثقافيّة والسيكولوجيّة. التكلفة الباهظة للاحتلال، وغياب الشرعيّة الدوليّة، والإحساس الوجوديّ الدائم بغياب الأمن، هذه ليست إلّ جزءًا ممّا يواجهه المجتمع الإسرائيليّ يوميًّا. وإذا كانت هذه الأمور تنسحب على مجتمع متطوّر ومتين، فما أدراك بمجتمع فلسطينيّ يرزح تحت نير الاحتلال العسكريّ لخمسة عقود ونيّف. الصعوبات التي يعاني منها هذا المجتمع تتجسّد في الكثير من المؤشّرات ومن بينها أعداد المعتقلين والأسرى في السجون الإسرائيليّة، وأعداد القتلى والمصابين جرّاء عمليّات قوى الأمن الإسرائيليّة، والفقر المتفشّي في المجتمع، ومستويات البطالة المرتفعة، وأعداد ذوي الاحتياجات الخاصّة الذين يعاني بعضهم من موبقات
الاحتلال على المستويَيْ البدنيّ والنفسيّ.
تغييب هذا الواقع، وطمس الواجب الأخلاقيّ للمجتمع الإسرائيليّ تجاه ما يحصل في أراضي الضفّة الغربيّة وقِطاع غزّة، يشكّلان جزءًا من السياسة التي تنتهجها إسرائيل منذ أمد بعيد، والتي وصلت إلى ذروتها في العَقد الأخير مع ترسُّخ حكم حزب الليكود والأحزاب اليمينيّة الاستيطانيّة والدينيّة التي تعمّق المفهوم الثيولوجيّ (اللاهوتيّ) في منظومة صنع القرارات في إسرائيل، وتمنح الآلة العسكريّة دعمًا غير محدود في سعيها لقمع أيّ شكل من أشكال المقاومة الفلسطينيّة للاحتلال الإسرائيليّ.
هذا المفهوم الذي يدمج بين العقيدة المسيحانيّة والمفهوم الأمنيّ المتشدّد نما وتجذّر في العقود الأخيرة ليصبح المفهوم السائد في أروقة الحكم الإسرائيليّة. وفي كلّ ما يتعلّق بالشأن الفلسطينيّ، انعكس هذا المفهوم في عمليّات تشريع شملت قانون النكبة من العام 2011 وقانون القوميّة من العام 2018 ، وإدخال تغييرات كثيرة على قانون الجمعيّات في سبيل تضييق الخناق على منظّمات حقوق الإنسان "الإسرائيليّة" التي تنشط في الضفّة الغربيّة. إلى ذلك تجسّد هذا المفهوم في حيّز التربية والتعليم، حيث تعاظَمَ تدخّل المنظّمات اليهوديّة الدينيّة والقوميّة المتشدّدة في جهاز التربية والتعليم، بما يشمل التعليم الرسميّ، وجرى استبدال كتاب المدنيّات بغية النهوض بمفهوم إثنيّ ضيّق للمواطَنة على حساب مفهوم ليبراليّ أكثر تسامحًا. تُعزى هذه التحوُّلات إلى مسارات باطنيّة واسعة النطاق في المجتمع الإسرائيليّ، والتي تتجسّد على المستويات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. هذه المسارات لا ترتبط حصريًّا بمنظومة علاقات هذا المجتمع مع الشعب الفلسطينيّ ومع المواطنين الفلسطينيّين في إسرائيل، لكن تأثيرها عليهم بالغ وشديد، لذا حَرِيٌّ بأيّ مسعى لفهم المسارات التي تدور رحاها في المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل أن يَُوْضِعها في هذه السياق المفعم بالتحدّيات.
يخوض المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل غمار سيرورات مُهِمّة، ويواجه تحدّيات جمّة. وبما أنّ التقرير الإستراتيجيّ الثاني قد قام بتناول التحدّيات الأساسيّة، فلا حاجة للعودة إليها في سياقنا الحاليّ. على الرغم من ذلك، وقبل التوجّه لعرض أوراق المواقف المختلفة، من المهمّ الإشارة إلى عدد من الاتّاهات الاجتماعيّة والسياسيّة المهمّة التي يجدر تناولها بغية مَوْضَعة أوراق المواقف التي كُتبت حول هذا المجتمع في سياق أوسع.
يتميّز المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل بتفاضل كبير في المجال الاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ، وفي تحوّلات مركّبة وعميقة في هيكليّته وفي المفاهيم السائدة فيه. في العقود الأخيرة، وبعد حقبة طويلة من التعامل مع الهزيمة السياسيّة والشرخ الاجتماعيّ العميق الذي تسبّبت فيه النكبة، تظهر مؤشّرات واضحة للتغلّب على الأزمة، والتي تنعكس في تشكُّل طبقة اجتماعيّة ميسورة الحال نسبيًّا، ومَأْسسة اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة تميّز المجتمعات التي تخوض غمار مسارات تحديث متسارعة. هذه الطبقة الاجتماعيّة الجديدة تتميّز بمستويات تحصيل علميّ عالية تنتج عنها مستويات دخل أعلى من المعدّل. إضافة إلى ذلك، يمكن الحديث عن نموّ مجتمع أعمال ذي دخل عالٍ في المدن والقرى، الأمر الذي يمكّن من نموّ ثقافة استهلاكيّة محلّيّة تفوق المعدّل.
هذه الأمور لا تلغي حقيقة أنّ المجتمع العربيّ يضمّ طبقة واسعة من العائلات التي تعيش تحت خطّ الفقر، حيث تُظهر بيانات مؤسّسة التأمين الوطنيّ من العام 2018 أنّ 44.2 % من العائلات العربيّة تقبع تحت خطّ الفقر. ما يعنيه هذا الأمر هو أنّ ثمّة فجوات آخذة في الاتّساع في المجتمع العربيّ بين من ينجحون في الانخراط في الاقتصاد الإسرائيليّ ومن يبقون في الخلف. مستويات التحصيل العلميّ الآخذة في الارتفاع في صفوف شرائح سكّانيّة معيّنة -ولا سيّما في صفوف النساء- تشكّل عاملَ حراكٍ اجتماعيٍّ قويًّا يقف من خلف فجوات الأجر الآخذة في الاتّساع.
وتُظهر بيانات دائرة الإحصاء المركزيّة أنّ الطلبة الجامعيّين العرب شكّلوا في السنة الدراسيّة 2012 - 2013 نحو 12.9 % من مُجْمَل الطلبة الجامعيّين في مؤسّسات التعليم العالي في إسرائيل، وشكّلوا في السنة الدراسيّة 2016 - 2017 نحو 16.1 %.
هذه البيانات تُظهر ارتفاعًا متواصلً في نسبة الطلبة العرب الذين يدرسون في مؤسّسات التعليم العالي في إسرائيل، على الرغم من أنّ نسبتهم ما زالت متدنّية مقارنة بنسبة السكّان العرب من المجموع السكّانيّ العامّ في إسرائيل، ولا سيّما في الفئة العمْريّة ذات الصلة، والتي تصل إلى 26 %.
الزيادة في أعداد الطلبة الجامعيّين العرب تنسحب أيضًا على طلبة اللقب الثاني، إذ وصلت نسبتهم في السنة الدراسيةّ 2016 - 2017 إلى 13 % من المجموع العام،ّ وبحسب هذا التقرير ارتفع عدد الطلبة العرب من 26,000 طالب في السنة الدراسيةّ 2010 -2011 إلى 47,000 في السنة الدراسيّة 2016 - 2017 ، أي بنسبة 80 % تقريباً. هذه البيانات لا تشمل الطلبة العرب الذين يَدرسون خارج دولة إسرائيل )في الضفّة الغربيةّ، والأردن، ودول أوروبا الشرقيّة والغربيّة وشمال أمريكا - ويبلغ عددهم نحو 15,000 طالب(. هذه البيانات تشير إلى ارتفاع متواصل في نسبة المتعلمّين في هذا المجتمع، وبالتالي إلى عامل حراك قويّ يترجَم بعامّة إلى مستويات دخل مرتفعة نسبياًّ.
هذه التغيُّرات تعكس زيادة واضحة -وإن كانت بطيئة- في عدد المواطنين العرب الذين اكتسبوا مهنة أكاديميّة ويسعون إلى تحسين حظوظهم في ترجمة تحصيلهم العلميّ إلى مستويات دخل تفوق تلك التي حصل عليها أهاليهم. هؤلاء الخرّيجون يشكّلون مخزونًا بشريًّا مهمًّا لتَشكُّل طبقة متوسّطة عربيّة متعلّمة تحمل على أكتافها مشروعًا اجتماعيًّا ثقافيًّا يسعى إلى تحسين الشروط المعيشيّة للمواطنين العرب، في مواجهة سياسة حكوميّة إقصائيّة تميِّز ضدّهم في جميع المَرافق الحياتيّة، وأغلبيّة يهوديّة تسعى إلى وضع عراقيل أمام شرعيّة حضورهم في الحيّز العامّ الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ في إسرائيل.
على خلفيّة هذه التغييرات الديمچرافيّة، تتطوّر في المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل تيّارات فكريّة اجتماعيّة وسياسيّة جديدة ترتبط بخصائص اجتماعيّة متفرّدة وعلى رأسها الانتماء الفلسطينيّ، والأصلانيّة، والثقافة والدين الإسلاميّان. هذه التيّارات الفكريّة تعكس نموّ طبقة متوسّطة عربيّة ونخبة سياسيّة وفكريّة جديدة.
البراعم الأولى لهذه الطبقة ظهرت بدءًا من ثمانينيّات القرن الماضي لكنّها لم تتبلور كنخبة واضحة المعالم إلّ في التسعينيّات. هذه الطبقة تسعى إلى تطبيع المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل داخل الظروف غير الطبيعيّة، في سبيل مواجهة سياسة إسرائيل التي تعمل على دفع مواطنيها العرب نحو هامش الاقتصاد والسياسة، وحرمانهم من مواردهم وقوّتهم السياسيّة. رغبة الأغلبيّة اليهوديّة في دولة إسرائيل هي التي تشترط معظم التطوّرات في المجتمع وتُْلي سياساتها. على الرغم من ذلك، ورغمًا عن أنف الأغلبيّة اليهوديّة، تبلور النخب العربيّة الجديدة تصوّرات سياسيّة تفرض التحدّيات على الدولة وعلى أيديولوجيّتها المهيمنة. تسعى هذه النخَب إلى فضح استخدام الدولة لتدابير وإجراءات ديمقراطيّة بغية النهوض بسياسة تتعارض مع المبادئ الديمقراطيّة الأساسيّة، نحو حماية الحقوق الأساسيّة للأقلّيّات القوميّة - الأصلانيّة، وهي حقوق جرى تكريسها وترسيخها في القانون الدوليّ وفي المواثيق والمعاهدات الدوليّة.
القيادة التي نمت في المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في العقود الأخيرة هي قيادة تمثيليّة، وهو ما يتجسّد في التبايُن الاجتماعيّ - الاقتصاديّ الذي يميّزها، وهي تستمدّ شرعيّتها من نجاحها في تمثيل طموحات الجمهور ومزاجاته على الرغم من الخلافات بينها. وعلى الرغم من الادّعاءات المتكرّرة التي تطلقها المؤسّسة الحاكمة حول الفجوة بين مواقف القيادات ومواقف الجمهور، فإنّ هذه القيادة أصيلة وتضرب جذورًا عميقة داخل الجمهور الذي نمت من داخله. هذه الادّعاءات التي تطلقها المؤسّسة تشكّل جزءًا من حملة نزع الشرعيّة عن قيادة الجمهور العربيّ الفلسطينيّ، ومن سياسات الهيمنة التي تمارسها الدولة منذ تأسيسها في العام 1948 حتّى يومنا هذا، والتي تتجسّد في حرمان النخبة العربيّة من الانخراط في مؤسّسات الدولة وفي اقتصادها، ومن التأثير على نسيج الحياة في إسرائيل، وإضعاف قدرتها على النهوض بمصالح الجمهور الذي تمثّله. تعمل القيادة العربيّة داخل هيكليّة الدولة التي تضع أمامها العراقيل وتضيّق عليها وتلحق الضرر بقدرتها على تمثيل مصالح المجتمع الذي نمت من داخله. هذه الوضعيّة تفرض على القيادة شنّ نضال من أجل بقائها ومن أجل مشروعيّة مَطالب الجماهير التي تقودها. يجب على هذه القيادة أن تتحلّى بالمرونة والأفكار الخلّقة، وأن تعرف كيف تستغلّ بنْية الفرص القائمة، وأن تعمل على تجنيد الموارد الذاتيّة، وأن تعيد تأطير نضالها ضدّ الأغلبيّة المهيمنة من أجل المحافظة على مصالحها أو النهوض بها. النخبة العربيّة تجسّد أيضًا أنّ الوكلاء السياسيّين، على الرغم من ضعفهم، وعدم امتلاكهم للقدرة على التحكُّم في البنْية التي يعملون داخلها، يؤثّرون على هذه البنْية ويجبرونها على التعامل معهم بطريقة تصوغ صورة هذه البنْية. وبكلمات ملموسة أكثر: القيادة العربيّة التي أقصيَت عن بنْية القوّة الإسرائيليّة تنجح في تلوين "الإسرائيليّة" بألوان تتأثّر بهُويّتها غير المرغوب بها.
تحليل نموّ النخبة السياسيّة العربية يمكّن من الإشارة إلى خصائص الوكلاء السياسيّين لأقلّيّة قوميّة - أصلانيّة، وإلى أنماط عملهم داخل بنْية دولة قوميّة عرقيّة تسيطر عليها أغلبيّة أوتوماتيكيّة. يدور الحديث عن تشكيل متطرّف يمكّن من إلقاء نظرة عن كثب على تعقيدات حالة الأقلّيّة الفلسطينيّة في إسرائيل التي تحكمها الأغلبيّة بطريقة استبداديّة، وهذه الأخيرة تستخدم كلّ الوسائل المتاحة في سبيل إضعاف الأقلّيّة وحرمانها من مصادر قوّتها، لكن هذه الأقلّيّة تنجح على الرغم من ذلك في إرغام الدولة على التعامل معها ولو من زاوية "عدوّ" داخليّ. هذا الأمر يعكس "قدرة سلبيّة" ) negative capability ( تعزو للوكلاء السياسيّين الضعفاء قوّة عن طريق السلب، بسبب قدرتهم على عرقلة نوايا القوّة المهيمنة على تحقيق ذاتها على نحوٍ صافٍ.
على ضوء رفع نسبة الحسم في إطارِ ما سُمِّيَ بِ "قانون الحَوْكَمة"، جرى تأسيس "القائمة المشتركة" قُبَيْل انتخابات الكنيست العشرين )آذار 2015 (. ضمّت القائمة أربعة أحزاب عربيّة تختلف في ما بينها في الكثير من المناحي، وتمكّنت من الحصول على أغلبيّة أصوات الناخبين العرب في انتخابات عام 2015 ، وكذلك في انتخابات عام 2019 ، وأثبتت مجدّدًا أنّ القيادة المشتركة تمثّل احتياجات المجتمع وإرادته، على الرغم من عدم الرضى الجزئيّ عن إنجازاتها الفعليّة. تشكيل القائمة المشتركة يجسّد على نحوٍ جيّد الكفاءات السياسيّة والوزن الجماهيريّ والأخلاقيّ الكبير للقيادة بعيون ناخبيها، ويجسّد قدرتها على التغلّب على محاولات إقصائها من قِبل المؤسّسة السياسيّة التي تحكمها الأحزاب اليمينيّة ذات النزعة القوميّة المتطرّفة.
كلّ هذا لا يغيّر الواقع الهيكليّ الذي يعيشه المجتمع العربيّ - الفلسطينيّ في إسرائيل. التباينات التنظيميّة والفكريّة في هذا المجتمع تؤدّي إلى تنافس بين التيّارات السياسيّة على الموارد، وعلى المفاهيم والرموز الثقافيّة. التفاضل
الاجتماعيّ - الاقتصاديّ في هذا المجتمع بعامّة، وفي صفوف النخبة الفاعلة بخاصّة، يدفع إلى تنافس يأخذ في الكثير من الأحيان مَناحيَ سلبيّةً تصل حدّ استخدام العنف. وبينما تمثّل النخبة البنْية الاجتماعيّة بطبقاتها المختلفة أكثر
فأكثر، يدور صراع على موارد القوّة الأيديولوجيّة والاقتصاديّة والسياسيّة.
هذا الصراع يأخذ أبعادًا قويّة في كلّ ما يتعلّق بالسيطرة على المجالس المحلّيّة، حيث يجري تجنيد جميع الموارد المحتملة بما في ذلك استخدام العنف البدن لضمان السيطرة على أحد الموارد الأكثر قوّة في المجتمع العربيّ. هذه الصراعات تعزّز التشظّي الداخليّ وعدم القدرة على تحقيق توقّعات المجتمع العربيّ، ولا سيّما عندما يجري الحديث عن تكثيف النضال ضدّ سياسة التمييز التي تمارسها الدولة، والمحافظة على المؤسّسات التمثيليّة كأجسام تمكينيّة وموحِّدة. عدم القدرة على المحافظة على هذه الصراعات الاجتماعيّة والسياسيّة في أطر توافقيّة، والانزلاق المتواصل نحو استخدام العنف، يشير بوضوح إلى هشاشة النخَب العربيّة، وإلى
عدم القدرة على بناء قنوات اتّصال بنّاءة في ما بينها.
وعلى الرغم من أنّ الوحدة بين الأحزاب العربيّة في الحلبة البرلمانيّة تُعتبر تغييرًا مهمًّا، فإنّ هذه الوحدة قد فرضتها عليها المنظومةُ السياسيّة، ولا يمكن الادّعاء بعد أنّها تعكس تغييرًا جوهريًّا في سلوكيّات القيادات السياسيّة العربيّة. الصراع على تركيبة قائمة المرشّحين للكنيست وشَخْصَنة التمثيل السياسيّ يعكسان هشاشة هذه الوحدة، على الرغم من أنّها تحمل في طيّاتها تغييرًا مهمًّا مقارنة بالتشتُّت الحزبيّ والصراع الفكريّ اللذين ميّزا العقود الثلاثة التي سبقت هذه الوحدة.
لا شكّ أنّ هذه الوحدة قد تكون العامل الذي يؤدّي إلى تصالح معيّ بين الأحزاب، وإلى وقف مؤقّت للصراعات في ما بينها، ولو لصالح بقائها السياسيّ. مواصلة التعاون بين قيادات التيّارات المختلفة بعد الانتخابات وتجسّد الوحدة السياسيّة في اتّفاقات مبدئيّة في لجنة المتابعة العليا وإعادة تشغيلها، قد يكون بادرةً لتغيير عميق وإدارة عقلانيّة لبنْية الفرص كما هو متوقّع من قيادة أقلّيّة قوميّة تعاني من خضوع هيكليّ وسياسة إقصائيّة. إلى هذه الصراعات تنضاف مسألة مكانة المرأة والمساواة بين الجنسين، التي تشكّل هي كذلك قاعدة خلافات عميقة في المجتمع. أعداد النساء اللواتي يُقتلنَ في كلّ عام تشكّل مؤشّرًا واضحًا على الصراع الثقافيّ والاجتماعيّ الدائر في
هذا المجتمع. حالات القتل ما هي إلّ غيض من فيض العنف البطركيّ (الأبويّ) الذي يتجسّد في قمع النساء وإبعادهنّ عن الحيّز العامّ. وعلى الرغم من الارتفاع المتواصل في أعداد النساء اللواتي ينخرطن في سوق العمل، ولا سيّما في جهاز التربية والتعليم والخدمات الاجتماعيّة، ما زالت النساء يعانين من الإقصاء من مَحاور صنع القرار في الحكم المحلّيّ وفي الأحزاب السياسيّة. قلّة النساء اللواتي ينافسن عن رئاسة أو عضويّة السلطات المحلّيّة، أو على تمثيل أعلى في المؤسّسات التمثيليّة نحو القائمة المشتركة، ولجنة المتابعة العليا، ولجنة رؤساء السلطات المحلّيّة، تُظْهِر أنّ الحيّز العامّ ما زال ذكوريًّا في سواده الأعظم.
من المهمّ كذلك أن نشير أنّ نموّ جيل النيو-ميديا الجديد، والتغييرات التي تترتّب عن هذا الأمر على المجتمع العربيّ، قد يفضيان إلى تغييرات في طابع القيادة العربيّة إنْ واصلت القيادات التي تقف على رأس الهرم السياسيّ في أيّامنا هذه المحافَظةَ على أنماط الحراك المحافِظةِ السائدة في صفوفها. أبناء الجيل الجديد الذين لم يتبوّأوا بعد مواقع قياديّة رسميّة يعملون ويتحرّكون في عالَمٍ يختلف عن عالَم أهاليهم. الحديث يدور عن الجيل الثالث للنكبة، الذي يتأثّر بما يدور في العالَم الرحب المفتوح بعامّة وبما يدور في العالَم العربيّ بخاصّة، هذا الجيل القياديّ يحضر معه أنماط حراك اجتماعيّ، ولا سيّما أنماط تواصل جديدة بين القادة والمنقادين، وقد تنبثق منها أنماط قيادة جديدة، لكن الوقت ما زال مبكرًا لاستشراف تأثيرها على المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل. عدم الاستقرار في المنطقة، وضعف القيادة الفلسطينيّة في مناطق الضفّة الغربيّة وقِطاع غزّة (ولا سيّما الصراع الدائر بين قيادة السلطة وحماس)، يُبقيان الحلبة السياسيّة الإسرائيليّة والصراع على شروط المواطَنة، وبخاصّة النضال من أجل المساواة وضدّ التمييز والإقصاء، يبقيانها حلبة أساسيّة تستطيع القيادة العربيّة العمل فيها بطريقة مضمونة. الخطاب الذي تبنّته القائمة المشتركة بدءًا من انتخابات الكنيست العشرين في العام 2015 حتّى يومنا هذا (وهو خطاب مدنيّ ومطلبيّ في أساسه) يشكّل تجسيدًا لهذه النزعات في المستقبل. توحيد الأحزاب العربيّة في قائمة واحدة ما هو إلّ خطوة أولى في نقل الصلاحيات من الجيل الثاني للنكبة إلى الجيل الثالث، على نحوِ ما يتجسّد الأمر في الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة والتجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ، وفي الحركة الإسلاميّة.
السؤال الذي ما زال يبحث عن إجابة هو: هل وكيف ستصوغ التقاليد السياسيّة للقيادة الحاليّة (والفكر السياسيّ الذي أنتجته) قيادة الجيل القادم، أم إنّ هذا الجيل سينجح في استخدام الأدوات التواصليّة التي يملكها وثقافة النقاش الكامنة فيها في سبيل خلق جبهات سياسيّة جديدة تتمكّن على نحوٍ أفضل من مواجهة التحدّيات التي تضعها أمامه الدولة، ولا سيّما على ضوء تعاظم النزعات القوميّة المتطرّفة، والعنصريّة المكشوفة في المجتمع الإسرائيليّ؟
يَصدر هذا الكتاب في ظلّ "صفقة القرن" التي كشف الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامپ النقاب عنها في حدث احتفاليّ في البيت الأبيض في الثامن والعشرين من كانون الثاني المنصرم (2020) بمشاركة رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو.
على الرغم من أنّ المكان هنا ليس مُعَدًّا للدخول في تفاصيل هذه الخطّة، يمكن القول بدرجة عالية من اليقين إنّها تشكّل ترجمة مفصّلة للتصوّرات الأيديولوجيّة والأمنيّة لأحزاب السلطة المحافِظة وذات النزعة اليمينيّة المتطرّفة في إسرائيل، وتعكس قوّة اللوبي المسيحانيّ - الاستيطانيّ في صنع القرار في إسرائيل وفي صياغة السياسة الأمريكيّة في الشرق الأوسط. هذه الخطّة تعقّد الواقع الإسرائيليّ - الفلسطينيّ أكثر فأكثر، إذ إنّها تسوّغ السياسة الاستعماريّة الإسرائيليّة من ناحية، وتفرّغ من الناحية الأخرى مضمون الحقوق القوميّة الفلسطينيّة من محتواها، وتضع حدًّا لإمكانيّة تحقيق سيادة فلسطينيّة مستقلّة.
إضفاء الشرعيّة السياسيّة على ضمّ مناطق واسعة من الضفّة الغربيّة إلى إسرائيل على نحوٍ مخالف للقانون الدوليّ؛ وتأهيل المستوطنات غير الشرعيّة؛ ووضع شروط تعجيزيّة للفلسطينيّين تشمل التنازل عن حقّ العودة؛ والاعتراف بإسرائيل كدولة يهوديّة؛ والتنازل عن دولة فلسطينيّة ذات تواصل جغرافيّ يضمن السيادة؛ وإمكانيّة رسم الحدود بين دولة إسرائيل والأراضي الفلسطينيّة من جديد على نحوٍ يؤدّي إلى فقدان جزء من مواطني إسرائيل الفلسطينيّين لمواطنتهم - كلّ هذه الأمور تحوّل هذه الخطّة إلى وصفة مضمونة لاستمرار الصراع لسنين طويلة.
هذه التطوّرات تزيد من أهمّيّة وحيويّة مشروع التفكير الإستراتيجيّ، حيث تمكّن فصوله المختلفة من إعمال تفكير بنّاء حول مَناحٍ مختلفة من الواقع الإسرائيليّ. على الرغم من تنكّر دوائر واسعة في المجتمع الإسرائيليّ لهذه المواضيع، كلّنا أمل أن توفّر وجهةَ نظر جديدة لدى المهتمّين بالكينونة الإسرائيليّة - الفلسطينيّة، التي هي كينونة مشتركة، ممّا قد يدفع قُدُمًا ضرورة التعامل معها بطريقة تنهض بقيم إنسانيّة، وتُفضي إلى حلّ يرتكز على الاعتراف المتبادل الأخلاقيّ والعادل.
انتخابات الكنيست ال 23 تحمل في طيّاتها إمكانيّة تغيير النزعات التي تكرّست في صفوف النخبة السياسيّة المهيمنة في إسرائيل في العَقد الأخير، وعليه فإنّه بمقدورها أن تضفي على أوراق المواقف المطروحة هنا أهمّيّة في مسار إعادة احتساب المسار في العلاقات بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين. أوراق المواقف التي نستعرضها في ما يلي تسعى إلى إلقاء الضوء على جوانب مختلفة من الواقع الفلسطينيّ في إسرائيل، والإشارة إلى تطوُّرات راهنة تحمل إسقاطات على تعامل هذا المجتمع مع التحدّيات التي تواجهه، ولا سيّما على ضوء موقعه المركَّب في إطار الصراع بين الدولةِ التي يعيش فيها، والشعبِ والوطن اللذَيْن
ينتمي إليهما.
تتناول الورقة الأولى التي كتبها الدكتور يسري خيزران منظومة العلاقات بين المجتمعِ الفلسطينيّ في إسرائيل والعالَمِ العربيّ، وتقوم باستعراض تاريخ هذه العلاقات، وتشير إلى توجُّهات مستقبليّة محتمَلة قد تعزّز موقف هذا المجتمع.
أمّا الورقة الثانية التي كتبها الكاتب إياد البرغوثي، فتتناول منظومة العلاقات الثقافيّة المركّبة بين المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل والعالم العربيّ، وتتمحور في مسألة المقاطعة الثقافيّة لإسرائيل وإسقاطاتها على العلاقات بين الفلسطينيّين في إسرائيل الذين يحملون الجنسيّة الإسرائيليّة والعالم العربيّ الذي ينتمون إليه.
تتناول الورقة الثالثة التي كتبها طالِبا الدكتوراة أمير فاخوري ومحمّد خلايلة نزعات تدويل مكانة المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل، وتجنيد قوى وهيئات دوليّة لمساعدة هذا المجتمع على مواجهة سياسة التمييز والقمع التي تمارسها الدولة ضدّه.
تتناول الورقة الرابعة التي وضعتها الدكتورة رلى حامد أبو زيد - أونيل منظومة علاقات المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل مع المجتمع المدنيّ الدوليّ، وتستعرض الورقة التطوّرات التاريخيّة لهذه العلاقات وتشير إلى اتّاهات تطوُّر مستقبليّة محتمَلة.
أمّا ورقة المواقف الخامسة التي كتبها الدكتور شرف حسّان، فتعالج مسألة تطوُّر المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ في إسرائيل، وتتطرّق إلى مساهمته في تعزيز قدرة هذا المجتمع على مواجهة التحدّيات الماثلة أمامه. فضلً عن
ذلك، تتناول الورقة استحقاقات وجود شبكة واسعة من المنظّمات المدنيّة على العلاقات مع المجتمع الفلسطينيّ في مناطق الضفّة العربيّة وقِطاع غزّة.
الورقة السادسة والأخيرة كتبتها الدكتورة رنا زهر، وهي تلقي نظرة على موقف المواطنين الفلسطينيّين في إسرائيل تجاه الدولة اليهوديّة، وتشير إلى التبايُنات الداخليّة في هذا المجتمع تجاه هذه المسألة وكيف أنّ هذه التبايُنات تتقلّص عندما يدور الحديث على المطالب المدنيّة للمجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل من الدولة.
اتحميل المقدمة بصيغة PDF يرجى الضغط هنا.